كان لنشأته دورها فى تحديد مسار حياته العسكرية فهو من مواليد محافظة الجيزة عام 1943 إصطحبه والده وهو فى السادسة من عمره إلى ميدان رمسيس لمشاهدة عودة أبطال الفالوجا من رجال الجيش المصرى عقب حرب 1948 وانفعل بالمقابلة الحاشدة والهادرة للشعب المصرى لأبنائه الأبطال وفى هذا اليوم قرر الصبى الصغير أن يكون ضابطا بالقوات المسلحة المصرية .
وعنما تعاقدت مصر مع التشيك على صفقة السلاح الروسية للجيش المصرى كانت توضع نماذج من الطائرات الحربية الحديثة فى ميادين مصر ومنها تلك الطائرة فى طريق مدرسته التى يمر عليها ذهاباً وإياباً وهنا قرر أن يكون طالباً بكلية الطيران لا سيما بعد أن قابل قريبا له طالباً بها كان يستمع إليه بشغف عن الحياة بهذه الكلية .
وبدأ الخطوة الجادة فى حياته بألتحاقه بكلية الطيران عام 1959 وأستمر بها ثلاثة أعوام كادت أن تنتهى بأبعاده عن الطيران وحلم حياته فأثناء تدريبات الطيران كان يمكنه الاقلاع بالطائرة والتحليق بها بصورة جيدة ولكن كان لديه مشكلة فى الهبوط حيث كانت الطائرة تقفز منه عدة قفزات على الممر وحاول مدربه بالطائرة الهندى الجنسية فى إطار تبادل معلمى الطيران أن ينبهه بذلك ولكن بتعبير لم يألفه ولم يسمعه من قبل وهو " تشيك .. تشيك .." وعندما شعر بأمكانية إستبعاده من الكلية وبدا عليه الحزن .. فأستفسر منه احد زملائه عن سر حزنه فأخبره بالقصة ففك له صديقه لغز العبارة المبهمة ويقصد بها المدرب أن يرتفع بمقدمة الطائرة قليلاً أثناء الهبوط وبالفعل نفذ الهبوط بهذه الطريقة وتخرج الطيار محمد عكاشة عام 1962 ليلتحق بتشكيلات الميج 15 ثم الميج 17 ، وقضى بضعة شهور باليمن ضمن تشكيلاتنا العاملة هناك ، وعاد عام 1963 حيث تم تكليفه بالسفر إلى الهند للحصول على فرقة معلم طيران لمدة أربعة شهور ليعود فى مايو 1964 مدرساً بكلية الطيران ( الجوية حاليا ).
ثم ذهب إلى اليمن... وفى أحداث 5 يونيوأثارت البيانات الصادرة من الاذاعة المصرية حماسة الطيارين المصريين باليمن وتمنوا لو كانوا موجودين بين زملائهم على جبهة سيناء ومالبثت الأوامر أن صدرت بطلب 6 طائرات من الموجودة باليمن .. وكم أثار هذا الطلب حيرة الطيارين باليمن فهم يعلمون حجم سلاحهم الجوى فى ذلك الوقت وأن طلب القيادة الاستعانة بستة طائرات من عندهم لهو دليل على كارثة حلت بسلاح الجو المصرى ، ولما كان مدى هذه الطائرات لا يسمح لها بالطيران المباشر إلى الأراضى المصرية ، وإعتذرت السعودية عن سوء حال مطاراتها لأستقبال الطائرات المصرية فى طريق عودتها كان الحل فك الطائرات وشحنها على طائرات النقل ولكن ذلك كان يستلزم مزيد من الوقت ومالبثت القيادة أن ألغت الأمر وبعد فترة قصيرة عاد عكاشة إلى مصر وتشفت أمامه الحقائق.. أفضل ما فى الأمر أن مصر لم تمضى طويلاً فى ندب حظها أو البكاء على اللبن المسكوب إنما بدأت عملاً جاداً وجهداَ مضنياً كان اللواء عكاشة شاهداً عليه..
فحدث تغيير فى القيادات حيث تقدم أولى الخبرة والكفاءة ليحلوا محل أولو الثقة ، تم تشييد ملاجئ خرسانية للطائرات ، زادت ساعات التدريب وعدد الطلعات للطيارين ، وبدأ البطل محمد عكاشة قيادة سربه فى عمليات الاستنزاف التى كان لها الفضل فى إبتكار العقيدة المصرية فى القتال الجوى ففى بداية سلاح الجو المصرى كان يتبع عقيدة القتال الغربية متمثلة فى محاكاة بريطانيا التى كانت تحتل مصر وظلت هذه العقيدة موجودة حتى حصول مصر على السلاح الشرقى عقب الثورة وإتبع عقيدة القتال الشرقية ولكن مجريات حرب الاستنزاف دفعت مقاتلينا فى سلاح الجو إلى إبتكار وسيلة ملائمة فى القتال تقلل الخسائر لأقل حد وخصوصاً تغيير الأرتفاع اللازم إتخاذه عند الهجوم على الأهداف الأرضية لتقليل زمن الظهور أمام المضادات الأرضية للعدو . وكان عكاشة أول من درب سربه من الميج 17 على هذه الوسيلة التى أخذت بها باقى الأسراب.
وقد تمكن عكاشة بسربه أثناء حرب الاستنزاف من تنفيذ 12 غارة على مواقع العدو بسيناء ثلاثة منها ضد حصون خط بارليف , و9 ضد موقع صواريخ الهوك برمانة المسؤل عن حماية القطاع الشمالى من الجبهة ، وقد أحدث به خسائر فى غاية الدقة للدرجة التى دعت زميله فى السرب يمازحه عقب إلقائه القنابل على موقع قيادة العدو بقوله فى جهاز اللاسلكى :
يا أقندم إنت نزلت القنابل فى حجر الراجل اللى جالس فى غرفة القيادة
فأشاع جو من الأبتسام فى معمعة القتال..
هكذا كانت وستظل بإذن الله روح الحب والألفة بين أعضاء السرب الواحد خلال أصعب الظروف.
وعن أحدى الهجمات يروى:
وبدأ التشكيل في التنفيذ بدقة وبراعة لم أكن أنا نفسي أتوقعها منهم . وأرتفعت بالتشكيل إلى 800 متر، استعدادا لقذف القنابل .. وكان الموقع تحتي يبدو وكأنه صورة مجسمة
.. ووضعت الطائرة في وضع الانقضاض، وغاب كل شئ عن ذهني ولم أعد أشعر بشئ من حولي ، سوى أن عيني قد تحجرتا من خلال جهاز التنشين على مركز القيادة ، خشية أن ينحرف التنشين قيد أنملة .. واستمر الوضع لثلاث ثواني كنت قد وصلت خلالها إلى ارتفاع 400 متر، وفي لمح البصر تأكدت من السرعة وكانت 650 كيلومتر، وكانت تلك هي اللحظة المناسبة فضغطت باصبعي على زر إسقاط القنابل. ثم على الفور بدأت في الخروج من الانقضاض..
- الله ينور يا فندم .. القنابل نزلت في حجر الراجل اللي في مركز القيادة!
أسعدني تعليق حسن أيما سعادة، فقد كان خلفي وكلماته تدل على أن قنابلي قد أصابت الهدف تماما، وبهذا توقفت بطارية الهوك عن العمل .. وخرجت من الهجمة الأولى وارتفاعي حوالي 10 امتار هربا من المدفعية المضادة التي ستحاول أن تصيب أيا من طائرات التشكيل .. وبدأت الالتفاف بطائرتي استعدادا للهجمة الثانية.
- كل التشكيل على ارتفاع 10 متر عشان الـ م/ ط
وارتفعت بالطائرة مرة اخرى إلى 700 متر، ثم وضعت الطائرة في وضع الانقضاض
على أحد الرادارات . وتكرر ما حدث في الهجمة الأولى من تحجر عيني على الهدف حتى ضغت على زر اطلاق الصواريخ .. وفي ثوان معدودة كانت الصواريخ الثمانية تخترق الرادار فتحيله إلى كتلة من لهب ..
وانتابني شعور غريب بالراحة .. كنت أشعر كمن أنزل حملا ثقيلا من على كتفيه .. والتفت حولي كي الاحظ باقي طائرات التشكيل ، فرأيت حسنا ومجدي يهاجمان ببراعة، رغم أن هناك مدفعية مضادة للطائرات بدأت في مطاردتنا كي نتوقف عن مهاجمة الموقع، أو على الأقل نرتبك فتأتي هجماتنا غير مؤثرة.
- إيه يا حمدي أخبارك أيه؟
- كله تمام يا فندم .. في الهجمة التالتة والموقع تقريبا انتهى وأعلى حاجة فيه دلوقت الرصيف..
ولم أترك حمدي وتشكيله يتمادى في حماسه ، فقد خالف أوامري بتلك الهجمة الثالثة..
- حمدي أوقف الهجوم خلاص .. جمع التشكيل بتاعك وخد اتجاه العودة
- حاضر يا فندم
- كل الطيارين تبص حواليها كويس ، احتمال الميراج يظهر دلوقت
وتركت موقع الهوك وتجمع باقي أفراد التشكيل حولي في مواقعهم المحددة .. وبعد أقل من
دقيقة ظهر على البعد حمدي وتشكيله بعد أن ترك الموقع هو الاخر.
- أنا على يمينك على طول يا حمدي .. مسافتي منك 3 كيلو..
- شايفك يا فندم ، وحاضم عليك
انتابني شئ من الزهو بداخلي، لكني قضيت عليه في لحظتها ، حين تذكرت بأنه يجب أن أعود بالثماني طائرات وكنا مازلنا على بعد دقيقتين من القناه .. كانت عيناي تمسحان السماء بحثا عن الميراج الإسرائيلي، حيث هي الخطر الذي يهددنا في هذه المرحلة من الطلعة .. سينا .. هل سيقدر لي العودة إليك مرة اخرى .. سأبقى على ارتفاع 15 مترا حتى القناة ..العرق يتصبب مني بغزارة ليست من طبيعتي .. القناة على مرمى البصر ..
- القناة تحتنا يا فندم
انطلقت الكلمات من جابر في جهاز اللاسلكي، وكان يبغي ان يطمئن الجميع إلى أننا أصبحنا فوق أرضنا وفي حماية الدفاع الجوي، الذي سيتكفل بأية طائرة معادية مقتربة منا .. وشعرت بأن الغدة اللعابية عندي قد بدأت تعمل لتزيل جفاف حلقي الشديد الذي بدأت أشعر به الان فقط ..
وما أن عبرت القناة وأصبحنا فوق الضفة الغربية، حتى بادرت بالتسلق التدريجي حتى وصلت بالطائرة إلى ارتفاع 100 متر وتنفست الصعداء، وخيل إلي أن هذه المائة متر ارتفاع كبير جدا، رغم أننا نتدرب على هذا الأرتفاع في مرحلة الطيران المنخفض .. ثم تابعت التسلق بعد فترة إل ارتفاع 800 متر، فامتلأت عيناي بخضرة المزارع والحقول الممتدة أمامي ، فانزاج عني كل تعب كنت أشعر به ، بل سرى في داخلي استرخاء غريب ..
وهبطنا ثماني طائرات بسلام، وغادرت طائرتي بعد أن أوقفت المحرك ، وفوجئت بالميكانيكية وهي تتجمع ثم يحملوني لأعلى وهم يهتفون باسم مصر .. وشعرت بحرج شديد وطلبت منهم أن ينزلوني .. فاستجابوا على الفور، لكن أمطروني بقبلات لا حصر لها .. والكل يردد كلمات واحدة كأنهم متفقون عليها.
- ألف مبروك... حمد الله على السلامة
وفي دقائق معدودة كنا قد تجمعنا مرة اخرى في الخيمة، الكل يكاد يقفز فرحا وطربا .. الجميع يتكلمون ولا احد يستمع .. الطيارون يحتضن بعضهم بعضا .. الكل يقبل بعضه .. ثم تتكرر الاحضان والقبلات .. المشتركون في الطلعة يحكون للباقي تفاصيل ما تم في الطلعة وما شاهدوه لدى اليهود ..
يقطع تلك الحكايات تعليقات وضحكات الباقين ..
- شفت المدفع اللي كان على يمين النقيب حمدي؟
- أنا قلت جابر حيرشق في الأرض... كان بينه وبين الأرض مش أكتر من متر
- واحنا رايحين قلت النقيب محمد حايخبط في السلك اللي قبل القناة
- كنا طايرين ولا لما نكون بنزحف بالطيارات
- الواد طلال رقع الصواريخ بتاعته والعساكر بتاعتهم بتجري ناحية الرادار
- كانوا بيجروا لقضاهم
- بس النقيب محمد قومندان صح
- أنا مشفتش الصاروخ اللي بتقولوا عليه ده
وفي خضم هذا كله لابد وأن أنسحب من بين هؤلاء السكارى المنتشين بنصرهم الذي ذاقوا حلاوته .. فتوجهت لمكتبي في مبنى السرب وأنا أكاد أطير زهوا .. وانتهيت من إبلاغ القيادة بنتائج الطلعة ..وكان وقت الغروب قد حان، فخرجت من الغرفة ناظرا إلى الأفق إلى لا شئ، أسترجع ما حدث ..
وبعد لحظات فوجئت بقنديل يقبل علي ولم أكن قد شاهدته بعد الطلعة .. واحتضنني قائلا
- حمد الله على السلامه يا فندم .. صور الأفلام بتقول ان
النتايج ممتازة
ثم وضح الانفعال عليه ، وأدار وجهه ليخفي دموعه.
- أنا كنت خايف قوي يا نقيب محمد .. مع أني كنت هنا على الأرض
****
ادرج في قائمة الشرف الوطني المصري - باب القوات المسلحة بعد منحه قلادة تاميكوم من الطبقة الذهبية اعتبارا من 24-3-2017
*الحيثيات من كتابة موقع 73 مؤرخين