قصة استشهاد
الشهيد العميد أركان حرب / السيد محمد توفيق أبو شادى
******************************
يرويها : نجل الشهيد أ/ أيمن السيد أبو شادى
كتبتها : أسماء محمود كاشف
*******************************
توضيح : معلومات تطوير الهجوم ومعركة الفرقة 21 مدرعة مصدرها : أ/ أحمد زايد ،حقائق معركة تطوير الهجوم ، موقع المجموعة 73 مؤرخين
*******************************
استعد العقيد السيد محمد توفيق أبو شادى لمغادرة منزله ، ووجهته معروفة ، إلى الجبهة ، وبين رجاله رجال اللواء الأول مدرع ، ذاك اللواء الذى تميز دوماً أثناء المشروعات التدريبية ببراعة رجاله وحنكة قيادته .
سويعات قليلة ، فاجأ خلالها أسرته بزيارة فى غير موعدها وإن كان اللقاء مرتقب ينتظره الجميع بفارغ الصبر، بدأها بالتوجه إلى مدرسة طفليه واصطحابهم إلى المنزل ليقضى معهم ساعات قليلة ، كان وجوده بينهم كفيلاً بأن تنتشر فى أرجاء المنزل ضحكاتهم ، وأن يسود السرور قلوبهم ، بدت نظراته إلى طفليه مختلفة ، فعيناه تأبى أن تفارق وجهيهما كما لو كانت تختزن ملامحهم وهو ينظر إليهم ويستمع إلى أحاديثهم ، يرقب السعادة البادية على وجهيهما .
وعلى غير عادتها طوال السنوات الماضية ، كانت عقارب الساعة تتحرك بسرعة ، بل بأسرع ما يكون ، نظر العقيد السيد أبو شادى إلى ساعة يده ، لقد حان وقت المغادرة ووداع أسرته ، لكن عيون طفليه كانت تتشبث به كما أيديهم وقلوبهم .
صاحت إيمان : بابا احنا خايفين عليك
أمسك وجهها بكلتا يديه وهو يقبلها ويطمئنها قائلاً :
حبيبتى أنا رايح أرجع أرضنا علشان تعيشوا رافعين رأسكم وتعيشوا فى أمان ..
طبع قبلة على جبينها وقبلة على جبين أخيها أيمن ، ولم ينس أن يوجه لزوجته الحبيبة كلماته الداعمة لها فى تلك الظروف الاستثنائية والتى امتدت لسنوات ستة ،فمنذ يونيو 1967 وانشغاله الدائم على الجبهة أصبحت وغيرها من زوجات الضباط هن المسئولات تماماً عن تربية الأبناء وتعليمهم وكل ما يخصهم ، يحدثها محفزاً ومسانداً وفى قرارة نفسه قناعة تامة أنه سيغادر إلى الجبهة تاركاً فى البيت محارب من طراز فريد ، أتاح وجوده فى المنزل أن يتفرغ وأبطال مصر إلى العدو وفقط وهم فى حال الاطمئنان فلا يشغل بالهم سوى اليوم المرتقب ونزال العدو .
ودع زوجته وطفليه مذكراً إياهم بالشعار الذى طالما يسعى إلى تحقيقه ، إنه ( النصر أو الشهادة ) ، و مضى إلى جبهة القتال ، التى لم يدم على فراقه لها ساعات ، حيث كانت السيارة بانتظاره .
انطلقت السيارة وانطلق معها مزيج من الذكريات ، إنه الآن يمضى فى طريق النصر ، لقد كاد أن يسلك مساراً آخر منذ أسبوعين فقط ، إذ كان مرشحاً لمنصب ملحق عسكرى للسفارة المصرية بفرنسا ، وحينما عُرض عليه الأمر ، لم يبد اعتراض ، وقبل الانتقال واستعد وأسرته للسفر ، لولا تلك المكالمة التى وردت إليه ، فاللواء عبد الغنى الجمسى رئيس هيئة العمليات يتصل به يستبقيه فى مصر ، فالجبهة والحرب تحتاج إلى جهوده وخبرته ، ومعنى أن يتصل اللواء الجمسى أن المعركة باتت وشيكة ..
المعركة ،، لكم انتظرها طويلاً ، تطرق ذهنه إلى ذكرياته فى معارك اليمن ، كما عرجت إلى مرارة يونيو 1967 ، تلك الهزيمة التى فقد فيها أخيه الأصغر النقيب فهمى توفيق ، كان الأمر موجعاً والألم على أشده حينما أُخبر باستشهاد أخيه ، ومما زاد المرارة أننا هزمنا وسيناء سليبة ، لقد استشهد فهمى والآلاف من أبناء مصر ، ممن قاتلوا حتى الرمق الأخير وممن كانوا على استعداد للقتال والتضحية ، بطولات شتى ذابت فى صيف يونيو الحزين وأوجاعه التى تناثرت فى ربوع مصر ، بدا له وجه فهمى ورفاقه كما لو كان محفوراً على تلك الرمال ، فالمعركة قادمة لا محالة ، وقودها الأرض ، الكرامة ، و دماء الشهداء .
وصلت السيارة إلى موقع اللواء الأول المدرع ، وبدأ القائد فى مراجعة مهام اللواء وخطة التنفيذ ، كانت مهمة اللواء الأول المدرع حماية الضفة الغربية ، لقد خاض الرجال الكثير من التدريبات الشاقة لتنفيذ المهمة باقتدار ، وهم دائماً على أتم الاستعداد ، فاستراتيجية التدريب قائمة على مبدأ تدرب كما لو كنت تقاتل لأنك ستقاتل كما تدربت .
كان العقيد أبو شادى أشد اشتياقاً لخوض المعركة ، تراوده ذكريات الكلية الحربية ، وقت أن انضم إليها عام 1952 ، لقد تخلى عن كلية الصيدلة بعد أن درس بها لمدة عام ، وقدّم أوراقه إلى الكلية الحربية ، لم تكن رغبته فى أن يسلك مسار العسكرية غريباً أو جديداً على عائلته ، صحيح أن الوالد يعمل مستشاربالقضاء ، إلا أن أخواله الثلاثة من أبطال البحرية ، الفريق محمود عبد الرحمن فهمى ، قائد البحرية أثناء حرب الاستنزاف والصمود ، واللواء أحمد عبد الرحمن فهمى ، واللواء فوزى عبد الرحمن فهمى ،وكان ذلك مبعثه كى يمضى على درب البطولة ويذود عن وطنه كما أخواله ، تمر السنون ويتخرج ضابطاً فى سلاح الفرسان ( المدرعات ) قبل العدوان الثلاثى بأشهر قليلة .
هناك التقى القادة والأصدقاء الأبطال كمال حسن ، يوسف عفيفى ، تحسين شنن ، إبراهيم العرابى ، عادل سوكة ، نور الدين عفيفى و محمود خليل وغيرهم من الأبطال ، توطدت بهم الصلات وتبادل معهم الخبرات ، وشقوا جميعاً معاً دروب القتال فى طريقهم نحو معركة التحرير .
اليوم الجمعة ، الخامس من أكتوبر 1973 ، فى جبهة القتال يرفع أحد الجنود ، الأذان ، العقيد السيد أبو شادى يتواجد بين رجاله يقف أمامهم خطيباً ، يسأل الله النصر ويدعو الجنود خلفه ربنا بالاستجابة ، سرعان ما يتقدم ويؤمهم فى الصلاة ، لم يكن هذا جديداً عليه ولم يكن ظرفاً استثنائياً ، لقد دأب على إمامة جنوده وضباطه فى صلاة الجمعة ، والألسن والقلوب تبتهل إلى الله دوماً إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة ..
ساعات قليلة تفصل مصر عن معركة التحرير الشاملة ، تبدو عقارب الساعة كما لو كانت تتحرك ابطأ ما يكون عنها خلال السنوات الست الماضية ، بل بدت هذه الساعات كما لو أنها سنوات الصمود مجتمعة معاً .
القائد أبو شادى دائم التفكير فى تنفيذ المهام ، إذا ما تطلب الأمر التدخل فاللواء الأول المدرع ، إلى جانب اللواء 14 مدرع واللواء 18 ميكانيكى يشكلون الفرقة 21 المدرعة ، والتى تتمثل أهمية دورها فى كونها الاحتياطى التعبوى للجيش الثانى الميدانى ، منوط بالفرقة صد أى اختراق أو هجوم مضاد ناجح للعدو ، فهى القوة الرئيسية الأخيرة فى يد قائد الجيش الثانى .
ولم تكن مهمة الدفاع عن الجيش الثانى وصد أى اختراق من قبل العدو فى مناطق عبوره المحتملة ( الدفرسوار – الفردان ) جديدة على الفرقة 21 ، واللواء الأول بالأخص فهى مهمة اللواء عقب نكسة يونيو .
وما إن لاح ظهر السادس من أكتوبر حتى حلقت نسورنا فى عنان السماء ، وانطلقت مدفعيتنا ، يكيلان للعدو ومراكز قيادته ومطاراته الضربات الموجعة ، إنها اللحظة التى انتظرها المصريون جميعاً ، تلك التى انحلت فيها القيود وانكسر الجمود على الجبهة الناتج عن حالة اللاسلم واللاحرب ، لم تكن طائراتنا وحدها التى تحلق فى عنان السماء وإنما معنويات الجيش والشعب معاً .
زلزلت صيحة الله أكبر امتداد الجبهة ، بل إنها زلزلت مصر والعالم أجمع ، لقد انفجر بركان الثأر المصرى ، عازماً على استرداد سيناء واسترداد الشموخ والكرامة لجيشنا وأمتنا .
وفى ملحمة حربية ، خاض جيشنا المعركة الشاملة ، الصاعقة خلف الخطوط ، وفى المفارز ، قوات المشاة تعبر القناة ويعتلى رجالها الساتر الترابى ، المهندسين يقتحون الثغرات فى الساتر الترابى ويثبتون رؤوس الكبارى ، لتتمكن معداتنا الثقيلة من الانتقال إلى الضفة الشرقية ،إزالة وزرع الألغام ، إبرارالصاعقة وإغلاق المضايق ، الجميع يؤدى دوره المنوط به على أكمل وجه كما استعد له من قبل على مدارالسنوات الست ، لقد ارتفعت هامات المصريين وهوى الغرور والغطرسة الإسرائليين وهوى معها خط بارليف بحصونه المنيعة .
ولأن اللواء الأول المدرع مهامه حماية الضفة الغربية ، لم يكن العبور شرقاً من مهامه ..
الانتصارات تتوالى ، والمعارك تسير على أفضل وجه ، بذل فيها المصريون جنداً وضباطاً أرواحهم فداء الوطن .
وكما جموع الشعب كانت أسرة العقيد السيد أبو شادى تتلقف أخبار المعركة وتتلهف لسماع أخبارها ، تماماً كما تتلهف الاطمئنان عليه ، كان القلق يسرى بين أسرته ، تنتظر أسرته وترقب عودته ، يمنى ابنه الصغير أيمن ذوى 9 سنوات نفسه بأن والده سيرسل السيارة قريباً كى ينتقل بها إلى الجبهة ، يحتضنه والده ويجلسه فوق السيارة ، يقضى معه ساعات قليلة ، يغمره بعطف وحنان الأبوة ، أما إيمان لا يفارقها القلق وهى تتذكر قولها لأبيها : بابا احنا خايفين عليك ، ورده الحاسم :
حبيبتى أنا رايح أرجع أرضنا علشان تعيشوا رافعين رأسكم وتعيشوا فى أمان ..
كان الفرح بالعبور يسير جنباً إلى جنب مع القلق .. مع الأيام ثبت أن مخاوف أسرته لم تكن فى غير محلها .
فما إن حلّ يوم 14 أكتوبر حتى اتخذت القيادة المصرية قرارها بتطوير الهجوم ، لتخفيف وطأة الحرب على الجبهة السورية والجيش السورى ، وهنا تلقت الفرقة 21 المدرعة ، الأمر بالهجوم والاتجاه شرقاً .
وأثناء الاستعداد للعبور رصدت طائرة الاستطلاع الأمريكية تحركات الفرقة 21 المدرعة ،وخاصة تحرك اللواء الأول المدرع تجاه القناة وكذا تحرك اللواء 18 ميكانيكى بالتزامن معه ، وأصبح العدو على علم بتحرك الفرقة 21 ، ولاحت الفرصة له كى يحصد دبابات اللواء .
قاد العقيد أبو شادى اللواء الأول المدرع ، فى عبوره صباح 14 أكتوبر ،
ورغم أن قواتنا الجوية بدأت فى قصف نقاط العدو 118 و 114 وهى النقاط المواجهة لمنطقة عبور اللواء الأول ، تبع ذلك قصف المدفعية ، وقصف دبابات اللواء الأول لمناطق العدو ، إلا أنه سرعان ما تحولت الدفة ، بعد أن بدأ اللواء الأول فى العبور ، وتقدم باتجاه العدو .
فبعد مضى ساعتين من قصف مدفعينا وقصف اللواء الأول ، جابهت دبابات اللواء الأول قصف مدفعى ومقاومة شديدة من العدو أدت إلى وقوع خسائر كبيرة فى دبابات اللواء الأول .
كان العقيد أبو شادى فى إحدى الدبابات يقود رجاله ، وقد فوجىء بشدة القصف المدفعى من قبل العدو ، لقد أصبحت دبابات اللواء بقرار التطوير صيداً للعدو .. لم تكن تلك مهمتهم التى تدرب عليها الرجال لسنوات طويلة ، ولكن الواجب المقدس وتنفيذ التعليمات أمر لا مفر منه ..
صاح فى اللاسلكى معبراً عن حزنه فليس هذا اقتحام اللواء الأول
زادت خسائر الدبابات ، وزاد معها عدد الشهداء ، والقائد فى ميدان المعركة ، إلى أن تلقفت إحدى دانات العدو دبابة القائد فأصابتها ، وأُصيب البطل بعدة شظايا ليسقط خارج الدبابة ، جريحاً على الأرض ، من قال أن الأبطال تسقط .. إنهم يسكنون ممجدين .
حمله الرجال فى سرعة ، استجمع قواه وهو يقول لهم :
قولوا للعقيد محمود ربنا معه ، ويخللى باله من رجالى
كانت تلك آخر كلماته لهم ..
وصلت الإشارة إلى القيادة المصرية باستشهاد العقيد أبو شادى ..
لكن الإشارة لم تكن بالدقة ، فقد تم إخلاء العقيد أبو شادى إلى مستشفى القصاصين بالإسماعيلية .
وما إن علم اللواء ماهر حليم ، أحد أبطال سلاح الإشارة وصديق العقيد أبو شادى بنبأ الاستشهاد حتى انتقل بنفسه للتأكد من صحة الإشارة .. وقعت عينيه على صديقه العقيد أبو شادى ، لكنه لا يزال حياً ، إنه مصاب إصابة خطيرة .. ومحاولاً إنقاذه قام بنقله إلى مستشفى المعادى العسكرى ..
هناك كان العقيد السيد محمد أبو شادى فى طريقه إلى حيث شقيقه الأصغر فهمى ، كان فى طريقه إلى الشهادة ، لكنها إرادة الله أن يُنقل إلى مستشفى المعادى كى تحظى أسرته وأحبابه بنظرة أخيرة إلى البطل ، ويحظى هو بنظرة إلى زوجته وطفليه مرفوعين الرأس ، رغم الحزن والألم ..
وفى يوم 21 أكتوبر أسلم العقيد أبو شادى الروح إلى بارئها ، شهيداً فى سبيل الله والوطن .
انهمرت الدموع والأحزان بين أسرته و أحبابه ، رنّ صوته فى أذان إيمان وأيمن وهو يقول : أنا رايح أرجع أرضنا علشان تعيشوا رافعين رأسكم وتعيشوا فى أمان .. أنا رايح أرجع أرضنا علشان تعيشوا رافعين رأسكم وتعيشوا فى أمان ..
غادر الشهيد منزله ، إلى منزلة ونُزل أعلى بكثير .. إنها الجنة أعدها الله للمقاتلين فى سبيله .
سكنت روح العقيد أبو شادى لكن أمجاده ورجال اللواء الأول المدرع لم تسكن ولم تخبو ، بل أصبحت مثار الفخر والاعتزاز ، فبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، أقيم النصب التذكارى لشهداء المدرعات ، فى موقع اللواء الأول المدرع ، فى طريق الإسماعيلية ، وقد أزدان النصب التذكارى ولوحته التذكارية بأسماء الخالدين ، يتقدمهم اسم الشهيد العميد أركان حرب السيد محمد توفيق أبو شادى ، ووضعت الدبابة التى خاض بها القتال فوق النصب ..
وأمام النصب التذكارى لشهداء المدرعات ، أقيم الاحتفال تكريماً لشهداء وأبطال الفرقة ومنح اسم الشهيد العميد أركان حرب السيد محمد توفيق أبو شادى وسام النجمة العسكرية ، دوى المكان بالتصفيق الحاد فور ذكر اسم الشهيد ، تقدم ولده أيمن ذو السنوات العشرة ، لاستلام النجمة وبراءتها ، احتضنه المشير الجمسى ، وهمس إليه : أهلاً يا بطل .
نظرت إيمان حولها ، إنها ووالدتها وأخيها وجموع الحاضرين ، يقفون على أرض مصر فى أمان ، دون تهديد من العدو الذى انحصر فى شمال سيناء ومناطق قليلة ، حتماً سيغادر العدو أرض سيناء كلها يوماً ما ..
شعرت الأم بروح الشهيد تطوف المكان ، نزحت منها بعض الدموع وهى تطالع وجه أيمن يتسلم وسام النجمة العسكرية ، تراءى إليها وجه الشهيد كما عهدته مبتسماً فرحاً بالنصر والشهادة معاً ..
همست إيمان باكيةً : لقد عادت الأرض أبى ورفعنا الرؤوس ..